المكتبة الرقمية التفاعلية

مقالات

الجهل بالقيمة والمفارقات العجيبة 1

كثيرا ما تنتاب المرء الحيرة كلما اعتمل في صدره شيء من تلك المفارقات العجيبة ويتساءل: لماذا تحظى بلادنا ونظامنا باحترام الغير شرقا وغربا.. أصدقاء وفرقاء، في حين أن من أبنائها من لا يعرف لها قدرها ولا قدر نفسه منسوبة إليها. وهنا تكمن المفارقة العجيبة بين مكانتنا في العالم وطنا وشعبا، وبين عدم إدراكنا (نحن) لهذه المكانة التي اكتسبتها بلادنا عبر قرن من الزمان على ركائز ثلاث: المركز الديني، والقوة الاقتصادية، وحكمة القيادة، وما رتبته هذه الركائز من ثقل سياسي واسع المدى للمملكة، بحيث أصبحت طرفا فاعلا في كل معادلة: عربية وإسلامية ودولية، والمواقف أكثر من أن تحصى في قيادتها مسيرة الخليج، وموقعها الريادي في الأمتين العربية والإسلامية، ومنزلتها الرفيعة على مستوى العالم شرقه وغربه. فلماذا لا نقدر المكتسبات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي حققتها بلادنا في زمن قياسي، ومعدلات النمو الفريدة التي تشهدها في كل المجالات، والمؤسسات الحكومية والأهلية - حتى البنوك - التي أصبحت تدار بكفاءات وطنية أثبتت جدارتها، وذيوع صيت الأطباء السعوديين عالمية خاصة في مجال الجراحات الدقيقة والخطيرة، لماذا لا نكاد ندرك أن المجتمع السعودي البسيط الذي كنا نعهده قديما، قد تحول بهذه النقلة النوعية إلى مجتمع يشيع فيه استخدام الكمبيوترات. ومن يمعن النظر ويعيد مدارسة القرن العشرين بما شهد من تقلب الأنظمة، وتعاقب الزعامات، وسقوط الخلافة، ونشوب حربين كونيتين، والصراع بين القطبين، والغزو الفكري، وظهور الإرهاب، فسوف يدرك أنه وسط هذا الضجيج العالمي المتخبط قامت المملكة العربية السعودية كأول وحدة عربية، وأول دولة يقوم نظامها على الشريعة الإسلامية، وأول من يضع كلمة التوحيد على رايته، وكلمة (العربية) ضمن اسم الدولة الرسمي، وقد اجتهدت الدولة في نشر الدعوة، ولم تتقاعس يوما عن نصرة قضايا العرب والمسلمين بالدعم المادي والمعنوي، واكتسبت المملكة مكانها المرموق في العالمين العربي والإسلامي على الصعيد الرسمي والشعبي لكل ما تقدم، وباعتبارها – أيضا – رائدة الفكر الإسلامي، فأي موقف إسلامي تتخذه يحرك الدول الإسلامية وشعوبها، وأي فتوى تصدر عن مفتي السعودية ترجح لدى مسلمي العالم على أي فتوى أخرى مهما كان مصدرها، وأهم القرارات الإسلامية تكتسب الحجة إذا صدرت عن اجتماع في مكة المكرمة أو الرياض. ولقد حازت بلادنا موقعة اقتصادية بارزة، داخلية: بتجربتها المميزة في التنمية، فبينما معظم شعوب العالم تطالب قياداتها بتأسيس الخدمات وتحديثها، ثم قد تجاب مطالبها أو بعضها أولا تجاب البتة، فإن القيادة هنا تسبق بالمبادرات التقدمية والتطويرية طموحات المواطنين، وقدرات الأجهزة ولم ترق أحيانا إلى مستوى حماس القيادة واندفاعها في خط التطوير، التنفيذية فالقيادة دائما هي الأشجع، وهي القاطرة التي تسحب المجتمع سحب تجاه التحديث، وإنها ل (ترجو) أجهزتها التنفيذية وعامة المواطنين - بعد أن توفر لهم كل الأسباب – أن يعملوا ، وتحذرهم من التقاعس في اهتبال الفرص لتحديث المجتمع، وقد سمع الملأ هذه العبارة وفي كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز - يحفظه الله – لوزرائه على التلفاز عقب إعلان الميزانية (لا يوجد عذر.. أمل منكم جميعا تنفيذ ما جاء في هذه الخطة بأسرع وقت ممكن.. أرجوكم مرة ثانية الإسراع في تنفيذ ما جاء في الميزانية)! ومنذ تأسيس المملكة والقيادة تتصدى (بنفسها ) لمحاولات رهن المجتمع بزمن عفا عليه الزمن، حتى إن الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود - يرحمه الله - خاض حروبا أهلية مع أولئك الجامدين، الذين حرموا حتى الهاتف واللاسلكي والراديو ولولا شجاعة القيادة وإصرارها لما حققت بلادنا هذه القفزة التنموية الهائلة في زمن وجيز، ولما حققنا الاكتفاء الذاتي في الكثير من مجالات القوى البشرية - التي كنا نستعين بها من الخارج. حتى على مستوى الخبراء والمستشارين والنخب، وكل هذا يحسب بالدرجة الأولى للقيادة. وخارجيا: ينظر إلى المملكة كقوة اقتصادية مؤثرة لحيازتها أكبر احتياطي للنفط، ولأنها رمانة الميزان في ضبط أسعاره عالميا، كما أن البورصة السعودية أكبر بورصات الشرق الأوسط، وإذا نزلت قيمة الأسهم فيها أو ارتفعت أثرت طردية في أسواق الخليج وكبريات الأسواق العربية والإقليمية، وكما نلاحظ فإن الإعلام العربي المرئي والمقروء يوجه برامج قنواته إلى السعودية، والإعلانات فيه تستهدف سوقها، وتدور التحليلات الاقتصادية والسياسية في معظم برامج هذه القنوات حول المملكة. وهناك شواهد كثيرة على نفوذ الاقتصاد السعودي عالمية، منها أن نائب محافظ مؤسسة النقد السعودي قد صرح يوما بأن المملكة لن تفك ارتباط الريال بالدولار فارتفع - على الفور - سعر الدولار في العالم كلهال. ويخلص المرء من هذه الرحلة التاريخية إلى أن بلادنا نجحت - كدولة - في كسب احترام العالم لها ولنظامها ولمواطنيها، فما بال المواطن السعودي - مع الأسف - لا يدرك قيمة وطنه كما أدركها العالم، وبالتالي لا يدرك قيمته منسوبة لهذا الوطن؟! فينتقص بأفعاله من هذه المكانة، ويبخس الوطن حقه في التمثيل المشرف، وكأنه لا يزال منعزلا عن العالم لا يؤثر فيه ولا يتأثر. وهذا هو الخطأ الفادح الذي يقودنا إلى اقتراف سلوكيات مفارقة لقيمة هذا الوطن وأهله، أو السكوت عمن يقترفها، وحول هذه السلوكيات تنداح الأسئلة: لماذا لا يعرف المواطن السعودي - على نحو الحقيقة - قيمة وطنه في عيون العالم، فيعتز بهذا الوطن، وبنفسه، وبمكتسباته الوطنية، ويحافظ عليها ويصونها، بدلا من العبث بها وإهدارها؟!. ولماذا لا يزال يستثمر خارج الحدود بينما العالم كله يستثمر عندنا؟، ولماذا يضطر التأسيس الفضائيات والصحف والمجلات خارج البلاد؟! وبإدارات غير سعودية؟، ولماذا يتقاعس عن التصدي الجاد للبطالة؟، وكيف مع القوة المالية الهائلة للمملكة لا توجد استثمارات موازية؟ ولماذا يستورد المواطن هنا كل شيء ولا يكاد يصدر شيئا. وكيف مع فخامة المباني والتجهيزات في مدارسنا وجامعاتنا نسمع جعجعة ولا نكاد نرى طحنا؟ ولماذا نستغرق في مدارسة العلوم النظرية والآداب على حساب العلوم التجريبية والتقنية؟، ومن المسؤول عن جعل عقول أبنائنا مجرد مستودعات للتلقين واستظهار المحفوظ، بدلا من أن تكون شعلا فكرية تقود الأمة من الحسن إلى الأحسن دائما؟، ومن يسرب في مدارسنا وجامعاتنا منهجا خفيا، ويعبث بعقول النشء ويضر بأمن المجتمع واقتصاده؟ ومن يحاول - باسم الإسلام - إلغاء هوية هذا الوطن مع أنه قائم على شريعة الإسلام؟. وأنا هنا لا أشكك في قوة انتماء أبناء وطني لوطني، لأني أدرك مدى حب كل سعودي لهذا الوطن، ولكني فقط أذكر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، كما قال الحق تبارك وتعالى، أذكر بأنه لو أدرك كل واحد منا قيمة هذا الوطن لأدرك قيمته كفرد فيه، ولأدرك واجباته تجاه دينه ووطنه. ولا أجد ما أختتم به إلا أن أعيد وأكرر ما أعتقده – ويعتقده كل منصف- بأن الدين الإسلامي ليس دين عبادات فحسب، بل هو دين عبادة وعمل، وتطور وتقدم، ولا يلتزم ديننا الحنيف زمنا لا يفارقه، بل هو صالح لكل زمان، ولا يؤسس لمجتمع ينتقد فقط دون أن يعمل، خاصة إذا ما أكرمه الله بالأنعم أرضا ومادة وإنسان. وإن أخشى ما أخشاه أن تستمر هذه السلوكيات السلبية بدافع الجهل أو الجحود بنعم الله وهو الغيور على نعمه - القادر - جل وعلا - على أن ينزل بمن لا يشكرها ولا يتعهدها بالصون أشد عقابه.. وأناشد أصحاب دعوة الالتزام أن يبينوا للناس موقف الدين من التزام الإنسان بمصلحة وطنه والحفاظ على مكتسباته، وما تحث عليه عقيدتنا في هذا الصدد، ويمثل الصورة المشرقة لهذا الوطن.

  • شارك المقال على :
صحيفة الوطن فى 2006م