المكتبة الرقمية التفاعلية

مقالات

الإرباك الفكري وعدم وضوح الرؤية

صباح الحادي عشر من سبتمبر الماضي، كنت وبعض الأصدقاء نتجاذب أطراف أحاديث شتى، وكان من الطبيعي أن نخفض صوت التلفاز، لكن فجأة ظهرت إشارة محطة CNN بوضوح على الشاشة، فالتفتنا جميعا وإذا بأحد برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، والدخان يتصاعد بكثافة شديدة من فوهته وأركانه، ورفعنا الصوت فإذا بالمذيع يعلن أن طائرة صغيرة اصطدمت بالبرج، واستمرت صورة البرج - المحترق - لنحو عشرين. تدفقت المعلومات تباعا حول الحادث، وفقا لما يرد للمحطة من أنباء، وفجأة ..وبعد عشرين دقيقة، وللمرة الثانية بوغت المشاهدون بطائرة جديدة تصطدم بالبرج الثاني وتشعله، ثم توالت المشاهد والأخبار نقلا من نيويورك وواشنطن، والقصة بعد ذلك معروفة. في تلك اللحظة التفت إلى أصحابي قائلا: "الآن في هذه الساعة .. ولد عالم جديد.. وبدأ تاريخ جديد.. ورحم الله الأيام الخوالي".. وليس هذا بالطبع حديث اليوم، وإنما هو مقدمة للحديث عن استتباعات - مشبوهة - لتلك الكارثة الإنسانية وتوظيفها لأغراض خبيثة، من جهات تترصد طويلا المملكة العربية السعودية، وتنقم عليها أمنها ورخاءها، وتكاتف مواطنيها مع القيادة، التي كانت ولا تزال- بشهادة القاصي والداني - في مقدمة الصفوف ولم تكن أبدا خلفها، والتي قادت ملحمة التنمية في البلاد - باقتدار وشجاعة . على جسور من التآزر المستنير بين المسؤول والمواطن في تلاحم غير مسبوق. وقد رأت تلك الجهات المناوئة في أحداث سبتمبر وملابساتها فرصة سانحة لمقاومة المد السعودي ومواقع صدارته العالمية، وضرب خطوط صداقاته مع دول العالم، فشنوا ما استطاعوا من حملات إعلامية مسعورة، وهجومه مكثف على كل المحاور، يستعدون به العالم كله على هذه البلاد الإرهابية بزعمهما وحين تحولوا إلى الغزو الداخلي روجوا لفريات أخر بثها أعداؤنا في الخارج، وتناولها - مع الأسف. البعض في الخارج والداخل بسذاجة تامة، من ذلك ادعاؤهم أن المملكة بسبب هذه الأحداث وما تبعها من متغيرات عالمية، تواجه - قيادة وشعبا - إرباكا فكريا وتشكو عدم وضوح الرؤية. ويتحدث هؤلاء عن صدمة - مزعومة - تملكت الأمة السعودية جراء تلك الأحداث وتوابعها، وهي ا الأمة التي - على حد زعمهم - لم تتعود على الصدمات والمحن. كما يتحدثون معنا - نحن السعوديين - وكأننا أمة مرفهة، ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب، فلم تتعرض لامتحان أصعب في تاريخها من قبل، لهذا يراهنون على هزة تصيب ثوابتها الفكرية، وقواعدها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى تصبح - في حيرة من أمرها – مفتقدة القدرة على تخطي هذه الأزمة إلا إذا .. وأخذ كل خبير وكل منظر وكل عالم بكل الأمور، يضع لنا الحلول المناسبة التي تؤدي في النهاية إلى ما يرجوه لنا، وهؤلاء و هؤلاء جميعا لا يقرأون التاريخ، وإذا قرأوه فإنهم لا يفهمونه على نحو الحقيقة، يدل ذلك على أنك لا تدري كيف توصلوا إلى هذه الاستنتاجات؟! ولا ماذا حدث في المملكة ليعطيهم هذه الانطباعات العارية عن الصدق والمصداقية؟ وأتساءل - بكل صدق - هل يعرف هؤلاء الخبراء) تاريخ هذه البلاد؟ وهل درسوا قدرة هذه الأمة - قيادة وشعبا على مواجهة المحن والشدائد بل وحتى الحروب؟ أعتقد أن الإجابة ستكون بالنفي الجاهل لحقيقة تاريخ الأمة السعودية المعاصرة. ولنعد بذاكرتهم ( الواهنة أو المتواهنة) إلى الوراء، لنذكرهم بأنه في الوقت الذي كانت معظم دول المنطقة ترزح تحت وطأة الاستعمار، حققت هذه البلاد أول تجربة - ناجحة . للوحدة العربية، بقيام المملكة العربية السعودية بعد ملحمة كفاح طويل، ثم إنها في الوقت الذي كان فيه الاستعمار يبشر بالنظام الغربي وفكره وثقافته كحل وحيد لنهضة العرب، تجرأت المملكة العربية السعودية فاختارت النظام الإسلامي دستورا وحيدا للبلاد، في تحد واضح لكل الضغوط الغربية التي سعت لفرض نظامها وفكرها وثقافتها على العالم العربي، فكانت النتيجة أن المملكة العربية السعودية تقدمت ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، في حين ظل الكثيرون غيرنا يراوحون في أماكنهم، مكتفين برفع الشعارات، وافتعال الأزمات وتعميق الانقسامات بين العرب، وبعد ذلك واجهت المملكة الغزو الاشتراكي والشيوعي الذي ساد مواقع كثيرة في العالم العربي، وانتصرت عليه - شعبا وقيادة - وخرجت بدينها وثوابتها الأصلية، متطورة بنفسها دون الخضوع للغرب أو الشرق. أما داخليا فحدث ولا حرج عن النجاحات المتتالية، فقد تفوقت السعودية على الجميع، وأستطيع القول باطمئنان تام إلى أنها تفوقت حتى على نفسها، ولعل من أهم ما سجله التاريخ في حركة هذا الوطن أن القيادة - كما أسلفت - كانت دائما تسير أمام الأمة في التحديث والتجديد والتطوير، دون التفريط في الثوابت الراسخة والقيم الإيجابية الأصيلة ولعل نجاح المملكة في وزن المعادلة بين الأصالة والمعاصرة هو الذي أعطى التجربة السعودية هذا التميز وذلك الثراء في المحيط العربي والخارجي. وقارئ التاريخ المدقق في وقائعه يدرك أن التحديات ليست جديدة على هذه الأمة، فقد دخلت حربا أهلية بعد توحيدها بزمن يسير، لكن الملك الصالح المؤسس عبدالعزيز آل سعود - القائد الفذ استطاع أن يحسم الأمر، وأن يحافظ على استمرار مسيرة التطوير في البلاد طبقا لمنهج المعادلة الآنفة الذكر، ثم كانت فتنة الحرم المكي في مطلع الثمانينات الميلادية والتي حسمتها القيادة السعودية أيضا لصالح معادلة التوازن بين الأصالة والمعاصرة. وهكذا تقهقر الفكر الجامد المشكك في كل جديد، الرافض لكل إصلاح، ونجحت حركة الإصلاح والتطوير في عهود الملك سعود والملك فيصل والملك خالد وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد سلمه الله، فكان تحرير الرق، وفتح البنوك، ومدارس البنات، والتلفزيون، والمؤسسات الصحفية، والجامعات، والضمان الاجتماعي، ونظام العمل والعمال، ومدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين، وتحديث القوات المسلحة، ووضع النظام الأساسي للحكم، وأنظمة مجلس الوزراء والشورى، والمناطق .. إلخ، وقد جرت أيضا محاولات عديدة لوأد بعض هذه الإصلاحات ولكن المحاولات اندحرت جميعا أمام إصرار القيادة على منهجها في التطوير المستنير. أما عسكريا، فقد تعرضت البلاد الكثير من الحملات العسكرية التي استهدفتها وخرجت منها جميعا منتصرة ولله الحمد، فقد ضربت الطائرات في الستينيات الميلادية سواحل البحر الأحمر، وهوجمت جيزان ونجران وأبها، كما تعرضت المنطقة الشرقية بعد ذلك لهجوم جوي من جهة أخرى فأسقطت دفاعاتنا طائرتين معاديتين على الساحل الشرقي، وكان من أكبر الأخطار التي داهمت المملكة تعرض الكويت الشقيق للاحتلال مقدمة لغزوة موسعة على دول الخليج، واستضافت البلاد أكثر من سبعمائة ألف جندي أجنبي، زعم المشككون أنهم لن يخرجوا بل سوف يحتلوا البلاد، بل إن هناك من راهن على أنهم سوف يغيرون أنظمتكم - بل وحتى دينكم - بالقوة، ولم يحدث شيء من هذا، بل إن كثيرا من أولئك الوافدين أعلنوا إسلامهم. ووسط كل هذه الأزمات احتفظت المملكة برباطة جأشها وثقتها بنفسها، فلم :تلجأ لأية إجراءات استثنائية معهودة عند الغير في مثل هذه الأزمات، كإعلان حالة الطوارئ وحظر التجول، كما لم تفرض أية قيود على البنوك وتحويلاتها إلى الخارج، بل حرصت على تسهيل التعامل الحر، وتيسير حركة انتقال السيولة المالية للداخل والخارج، ولم أسمع في حياتي عن دولة تعاملت الأزمات بمقدار هذه الثقة، ولعلنا ندرك ذلك حين نقارب بين إجراءات الولايات المتحدة الأمريكية - أقوى دولة في العالم وأكثرها إمكانيات . في مواجهة الأزمة التي مرت بها بعد الأحداث الأخيرة، وكيف غيرت القوانين والتشريعات، وقيدت الحريات الشخصية والمالية، وحتى الثقافية والإعلامية، ثم نرى أن شيئا من ذلك لم يحدث في بلادنا ولله الحمد. وإلى عنوان المقال: الإرباك الفكري وعدم الرؤية، أعود متسائلا: أين هذا الإرباك، وأين عدم الرؤية؟ ليس من ذلك على أرض الواقع دليل واحد أو قرينة، فالأمور تسير حسبما خطط لها، والميزانية لم يحدث عليها تغيير، والاقتصاد ينمو كل شهر، وحركة السوق التجاري تتحسن، والإجراءات الأمنية على حالها، والتعليم يخضع للتطوير حسب الخطة والحاجة لا حسب التوجيه ولا الاعتراض من الخارج، أما في المجال السياسي فالمملكة لا تزال تتبوأ موقعها الطبيعي في قيادة الأمتين الإسلامية والعربية، وتتقدم حيث وقف الآخرون، وتواجه العقبات وتقترح المبادرات، وتشارك في صنع القرار الدولي، وتسعى لإنقاذ فلسطين من محنتها الأخيرة، ولا يزال العالم يتناقل أصداء النجاح الذي حققه سمو ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز في مؤتمر القمة العربية في بيروت، ونتائج رحلته مؤخرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي جاءت بمثابة فتح جديد للقضية العربية الراهنة. وبهذا يظل التساؤل حائر : عن أي إرباك يتحدث هؤلاء المرجفون، وأي رؤية مفقودة يدعون؟؟

  • شارك المقال على :
صحيفة الوطن فى 2002م