المكتبة الرقمية التفاعلية

مقالات

الإبداع ومنظومة القيم

منذ عرف الإنسان ثقافة التوطن الجماعي على رقعة من الأرض، وما ترتب على ذلك من نشأة المجتمعات، يحرص كل مجتمع على تكريس منظومة للقيم، تضبط حركة الفرد والجماعة، وتحقق حياة كريمة ومتطورة لكليهما، ولتصبح هذه المنظومة السياج الآمن والحصن الحصين لسلام المجتمع ورخائه، وهو يستقي هذه القيم من هويته المتراكمة عبر إرثه التاريخي، وفلسفات نُخبة في الكون والحياة، وقد لا تكون هذه القيم مكتوبة في قائمة خاصة تحت عنوان واحد، لكن العين لا تخطئها في سلوكيات الشعوب الحياتية، وفي عاداتهم وتقاليدهم اليومية. والحقيقة أن المنظومات القيمية البشرية تخضع للتجريب، وقد تفرز نماذج سلبية مدمرة، مثل التعصب لدعوى الدم الأزرق، والفاشيين والعدميين والصداميين، إلى آخر قائمة المنظومات التي أصبحت -كغثاء السيل-في ذمة التاريخ، وبقي ما ينفع الناس متمثلاً بجلاء في منظومة القيم الإسلامية، التي ارتضاها الخالق لخلقه جميعاً حتى قيام الساعة، والتي اتخذتها المملكة العربية السعودية خياراً وحيداً. وهي المنظومة التي لا تعتمد على التجريب البشري القابل للخطأ والصواب، بل على مرجعية مقننات الشريعة الإسلامية في أوامرها ونواهيها وهي قواعد السلوك التي أوجزها الحديث الشريف" البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وخفت أن يطلع عليه الناس"، على أن ينظر فيها بالمنظور الوسطي المستنير، وبذلك تصبح سلامة المنظومة القائمة على التنزيل الجليل والسنة المطهرة، هي الضمان الأوفى لسلامة المجتمع بأسره ،ولانتظام علاقته بغيره من المجتمعات، بينما يشكل الخروج عنها-جهلاً أو عمداً-في أي اتجاه وعلى أي نحو تهديداً للسلم الاجتماعي، وانحرافاً بالمجتمع عن جادة الصواب، وتفكيكاً لِلُحمه المتكاتفة على حمايته. ويجب الاعتراف بأننا عانينا -ولا نزال - ألواناً من الخروج على دائرة القيم في صور شتى، بعضها على خلفية عادات وتقاليد اجتماعية سلبية، منها -على سبيل المثال-منع الفتاة من فريضة العلم، والمغالاة في المهور و العنوسة المترتبة، رغم الحديث الشريف عن الفتنة التي تصيب الأمة بسبب ذلك، ومنها الإسراف في الولائم رغم النص القرآني الذي يجعل المبذرين أخواناً للشياطين! إلى غير ذلك من التجاوزات التي أدركنا أنه يجب إعادة النظر فيها، ومضاهاتها على مقاصد الشريعة، وإبطال الأعذار الجدلية حولها، وما يبعث على الطمأنينة أن حركة تطور المجتمع تطرد أمامها فلول هذه التجاوزات، وأن الساحة تتابع نقدها وتصرح علناً بضرورة نقضها، حتى أوشكت -أو أكثرها-أن تختفي من ساحاتنا. على أن ما يشغل البال الآن حد القلق، هو تجاوز -من لون آخر-على منظومة قيمنا، وإذا كانت التقاليد والعادات الاجتماعية السلبية السابقة تتعاطاها القاعدة العريضة للمجتمع بتنوعاتها الثقافية، وقد تحتمل أخذها على حسن النية، فإن التجاوز المريب يقع اليوم بين صفوف النخبة، من بعض المثقفين والكتاب وبرامج الفضائيات والدراما التي تقدمها، والمنابر المقروءة ورقياً وإلكترونياً، الذين يركبون موجة الانسلاخ عن المنظومة القيمية في مجتمعهم، ظنا منهم -وكل الظن هنا إثم- أن الإبداع لا يقع ولا يروَّج له إلا تحت هذه الخيمة! ولا أستبعد أن يكون هذا غزواً ثقافياً منظماً لزعزعة التطور الملحمي الذي تشهده بلادنا ويحسدنا عليه الكثيرون، وأن شبكة من (اللوبيات) تتربص بنا هنا وهناك، تشجع هذا اللون من الإبداع خاصة وتحفزه وتروج له، وتحتفي بأربابه وتكرمهم وتسلط عليهم هالة كبرى، وهكذا يغرر بالمثقف المنوط به قيادة مسيرة وطنه والذود عن حياضه، فيتحول إلى مهاجم له وناقض، لحساب المتربصين بالوطن المؤدلجين ضده، وبهذه المغريات الجذابة تُصاد الفراشات غافلة كانت أم واعية! وما يثير الريبة أكثر أن هذا اللون من الإبداع مسكوت تقريباً عن نقده وفرزه وتعريته، لا أدري لماذا؟! لعله الخوف_مجدداً_ من تهمة الرجعية، لكن الفيصل-يرحمه الله- كفانا الجواب حين قال : مرحباً بالرجعية إن كانت تعني الحفاظ على منظومة القيم في مجتمعنا، والوقوف في وجه محاولات اختراقها. إننا -ككل مجتمع بشري-تقع أعمالنا بين الصواب والخطأ، لكن هناك من يحلو له التهويل وتجسيم الخطأ، وتعظيم الحادث السيء الشاذ المفرد ليستقر-على غير الحقيقة- في الذهن كظاهرة عامة تصم المجتمع كافة، والبناء على الشائعة، وكشف العورات، والولوغ في مستنقع الجنس المكشوف، وبث صنوف الشر والجريمة، وتسويد المشهد بكامله، وهي السلوكيات السادية التي يدمنها من يوظف هذه النفايات لترويج إبداعه في أي من الصور، وتحت أي دعوى. وقد تومض ( الفلاشات) على هذا الإبداع لحظة، وقد يتسابق الخلق إلى هذا السراب حينا، لكن في النهاية لن يصح إلا الصحيح، فسوف تفرز الذائقة الجمعية الجوهر النفيس من الخَبث الرخيص، ولن يُخدع كل الناس طول الوقت كما يقولون! لذلك يجب دق جرس التنبيه المخلص إلى كل من تستهويه الشهرة الزائفة والكسب السريع، لقاء أن ينسلخ عن قيمه، دون التكفير ولا الإقصاء، ولكن بدعوتهم للعودة إلى قواعدهم الآمنة في قيم المجتمع الذي ينتمون إليه، ليكونوا قادة وموجهين لحركته داخلياً، وسفراء لفكره لدى العالم الخارجي، والمنافحين عنه ضد افتراءات الغير الحاقدين، الناقمين علينا نعمتي الأمن والرخاء. وما أبخس الثمن المنقود لقاء هذا النكران! وأي ثمن يمكن أن يعدل تنكر المرء لدينه ووطنه وتغييره جلده، في الوقت الذي هو قادر على أن يلعب دوراً هاماً في مسيرة هذا الوطن؟! ومن المعلوم أن درب الإبداع الحقيقي شاق وطويل ومليء بالآلام والدموع، وعلى الخاطب أن يكون مستعداً لبذل هذا المهر، فيقبل بتحديات النجاح، على أن يقصر الجدة والحداثة في إبداعاته على الجماليات والآليات المعاصرة، من الصور والأخيلة والبناء والحبكة في ألوان من الفن الراقي، مستعينا بعلوم العصر وتقنياته، وأن يخرج من الجلد التقليدي النمطي، إلى رحابة الرؤية والتعبير، دون الخروج على النسق الذي يعني هنا منظومة القيم. وبهذا يحقق المرء وجوده - بأفكاره- حتى بعد رحيله، فكم من المبدعين الراحلين لا تزال أفكارهم تشع بالنور في سماوات الدنا، بينما الأدعياء والمتلونون والناكصون في حكم الراحلين، حتى وهم على قيد الحياة!

  • شارك المقال على :