بالعلم لا بالجهل
قد يحتجب قرص الشمس خلف السحاب .. أو الضباب ,, أو حتى بفعل عاصفة التراب .. أو بالتواتر بين الجديدين: الليل والنهار .. لكن هذا لا يعني أبداً سرمدية الظلام – ولو شاء الله جل وعلا لفعل – فالشمس تشرق دائما من جديد .. لتملأ الكون نورا.
وكذا شأن الحقيقة، قد يسترها عن أبصارنا عجاج الأحداث، أو تحجبها عن بصائرنا عشاوات الرؤية، لكن هذا لا يعني (أبدا) ديمومة الضلال، فالحقيقة (دائما) تفرض نفسها بالبرهان، وفي النهاية .. لا يصح إلا الصحيح. ولست أزعم أنني فقيه أو مؤرخ يقدم علما قطعيا لا مجال فيه للظن، وإنما اجتهادي المتواضع ينطلق من شعوري بأن من حق كل إنسان مخلص بل ومن واجبه أن يطرح ما لديه من رؤى يعتقد أنها تحقق المصلحة العامة للأمة. وأعني بذلك حركتها الإيجابية المؤثرة المهتدية بمنارة العقيدة الإسلامية التي ارتضتها عمادا لوجودها، و(الحكمة ضالة المؤمن).
وما دمنا نبحث عن الحكمة والحقيقة، فلنعد بالذاكرة التاريخية إلى الوراء، وعلى قاعدة أن الأشياء إنما تعرف بأضدادها، نتبع أسباب ازدهار الحضارة العربية الإسلامية السابقة، لعلها تقودنا إلى أسباب انحسارها اليوم، ولسوف نجد أن العلم هو المكون الأساسي لتلك الحضارة والسبب الرئيسي في انتشارها الواسع الذي كاد أن يشمل الدنيا بكل أقطارها. ولقد ابتدأ دستورنا ( القرآن الكريم) بكلمة (اقرأ) وهذا أول أمر إلهي ينزل به أمين الوحي جبريل على أمين الأمة، مما يعظم قيمة ذا الأمر. والقراءة لا تنصرف إلى حروف الهداء فحسب، وإنما تنسحب إلى قراءة الكون كله، يؤكد ذلك تكرار الدعوة في ذلك الكتاب العظيم إلى التفكر، وأن العقيدة ليست مجرد إسلام بالوراثة، أو نفاقا، أو خوفاً، وإنما العقيدة الصحيحة هي ما وقر في القلب وصدقه العمل موافقاً لما نزل به الوحي ودعا له الفكر السليم.
ثم أن الله – جل وعلا- قد زادنا فضلاً وهدايةً وعلماً باقتفاء سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان أميا قبل البعثة، فغدا بها نورا يهدي الحائرين، وكم حث صلوات الله عليه وسلامه على طلب العلم في كثير من الأحاديث الشريفة. لذلك فتلبية الأمر الإلهي بتفسير القراءة على هذا النحو تستوجب أن نمتطي بكل همة وعزم وتصميم صهوة العلم لكل طيوفه وصنوفه.
ولقد وعى المسلمون الأوائل الدرس جيداً، فقرأوا بل لم يكتفوا بما قرأوا، فجلبوا قراءات غيرهم من أرباب الحضارات : اليونانية والرومانية والفارسية .. وغيرها، واستفاد العرب والمسلمون منها كثيرا بعد تحويل لغتها إلى العربية في حركة ترجمة واسعة ونشيطة، ويكفي أن خليفة المسلمين كان يمنح المترجم وزن كتابه ذهبا!! وظهر نوابغ علماء المسلمين الأوائل في كل فروع العلم والمعرفة : الطب-الكيمياء-الفزياء-الرياضيات-الفلك .. إلى غير ذلك. وكان الواحد منهم غالبا ما يجمع بين تلك العلوم التجريبية والطبيعية وبين العلوم الشرعية والإنسانية، واقرأوا أسماء أسلافكم العظام هؤلاء على قاعات الدرس، في الغرب مع الأسف!! ويكفي أن العرب وقتها كانوا يصنعون أسلحتهم بأنفسهم ولايستوردونها!! وجاء أبناء الفرنجة-حتى الأمراء منهم والنبلاء- يطلبون العلم في الأندلس، على عكس ما نفعل اليوم!
ذلك أن المسلمين والعرب-منذ فترة- توقفوا عن القراءة على نحوها الصحيح، وتحولوا عن ممارسة العلم على النحو السابق، بينما قامت للغرب دولة حضارية أخذت نتاج حضارتنا وطورتها .. ونحن نيام!، ولاتزال الحضارة الغربية تستقي من حضارتنا، من ذلك ما أخذه نابليون عن علماء الشريعة الإسلامية في مصر فيما عرف بـ (قانون نابليون).
وبعد كل ما تقدم .. هل أجافي الحقيقة إذا قلت إننا –العرب والمسلمين عامة- علينا أن نعود إلى القراءة الصحيحة كما أُمرنا، حيث طلب العلم المتكامل .. والبحث عن أسباب المعرفة الشاملة وأنه لن يتأتى لنا هذا إلا بإيماننا أولاً، وثانياً بتشجيع العلم والعلماء والإبداع الابتكار، وتبني المواهب الواعدة عبر برنامج مدروس لتنمية مواهبهم، لا أقول هذه مسؤولية الحكومات وحدها ولكنها مسؤولية الجميع. ودعوني أقولها بصراحة: إن المنطقة العربية لو وجهت ما ينفق على الفضائيات (الدعائية) والصحف (المأجورة) للصرف على مراكز الأبحاث العلمية لقامت نهضة عربية كبرى تنتشلنا من هذا القاع! ولنتصور لو أن ما أهدره صدام حسن على بعض الإعلاميين في هذه النوعيات من الصحافة والفضائيات أقول لو كانت هذه النفقة الباهظة ذهبت لأبحاث اقتصادية وصناعية وزراعية، إذن لرأينا عراقاً آخر .. على العكس تماماً مما نراه اليوم!!
نعم .. أيها الأخوة .. فبالعلم تنهض الأمم .. وتسود الدول.
وبالجهل تنحط الشعوب .. وبالجمود تتوقف العقول عن العمل ..
مما سبق يتضح لنا أن العلم هو أساس كل أمر، ولكن مما يؤسف له أن هناك كثيرين الآن يجتهدون بغير علم، وآخرين يدعون لجهاد على ضلالة. وإذا كان الجهاد مشروع التكون كلمة الله هي العليا، فلابد أن يسبقه الإعداد والتهيئة ومنها :قوة العلم والمال والسلاح والبيان... إلخ. ولابد أن يبدأ بأعظم جهاد .. الجهاد الأكبر .. جهاد الذات، فالجهاد الصحيح يبدأ بالنفس لا بالغير. والجهاد ليس باستخدام قنابل ومتفجرات وأسلحة يصنعها الغير نفجر بها أبنائنا إخواننا وآبائنا، وإنما في الارتقاء بالعلم والعمل الذي طار بغيرنا إلى آفاق القمر والمريخ، فامتلك الفضاء بعد أن سيطر على الأرض، التي نسعى نحن لتدمير نصيبنا المتواضع منها. والجهاد ليس بنسف مجتمعاتنا السكنية وأسواقنا وإداراتنا وإنما ببنائها وتطويرها، ليس بالهدم والتخريب وإنما بالبناء والإعمار. والجهاد ليس بقتل الأنفس المعصومة ووأد المواهب، وإنما بالمحافظة على حياة الناس وإحياء المواهب وإذكائها. والجهاد ليس بالتكفير، إنما بالتنوير. لمن يملك مقوماته. والجهاد ليس بالتعدي على كل ما هو مشروع ، وهدم كل ما هو قائم بل بتعزيز الشرعية، وإصلاح ما جهدنا كل الجهد في تأسيسه وتشييده. والجهاد ليس بعثا للفتن ،ودعاوى تفرق، وإنما بالتآخي والوئام والسلام. والجهاد ليس بالجهل والتخلف. وإنما بالعلم والتقدم. ولا جهاد ولا اجتهاد بغير العلم!.
-
شارك المقال على :
-
-
-
صحيفة الوطن فى 2004م