المكتبة الرقمية التفاعلية

مقالات

العيد الوطني للمملكة 1419هـ

ذات ليلة .. قبل نحو قرن من الزمان، خرج من رحم التاريخ (رجل)، استبد به الشوق الجارف إلى الديار، والحنين إلى دفء الأهل والوطن .. بعد أن ثقلت على نفسه سنوات الغربة، ومرت لياليها طوالا وهو يرنو بعين ملؤها الحسرة والألم إلى الوطن القريب .. البعيد .. السليب .. أسيرة، قد تبدلت أحواله، فعاش من بعد أمنه فزعا مفرعا.. تعمه الفوضى .. ويمزقه الشتات .. يسوده الظلم .. وتتنازعه الأهواء .. وتعيث فيه فسادا عصابات النهب والسلب .. وتتصارع القبائل بلا ضابط ولا رابط وكأنها شريعة الغاب. وحتى ضيوف الرحمن القادمين لأداء الحج والعمرة من أرجاء الداخل، ومن بقاع الإسلام في أرض الله الواسعة، لم يكن أحدهم يأمن على نفسه وماله من اعتداء شذاذ الآفاق، الذين استحلوا الأنفس والأموال، فخربوا سمعة الوطن وروعوا أمنه .. مع أنه مهد الرسالة، وأرض الهداية، وموطن الأمن والأمان. وكم أقض ذلك مضجع (الرجل) المؤرق بحلم تحرير الوطن، فكان ليله تفكيراً، ونهاره تدبيرا .. يرتب لبعث جديد .. يجمع الشتات المبعثر في أجواء الفوضى التي عمت الديار، ويعود بالقافلة إلى جادة الصواب .لكن المهمة كانت تبدو صعبة للغاية، يقف في وجه تنفيذها تواضع الإمكانات.. فأين الرجال .. وأين السلاح .. وأين العتاد لقمع هذا العبث المتمدد بالقبح على أرض مترامية الأطراف فيما يشبه القارة ؟؟ تساؤلات يقف المرء عاجزا إزاءها عن أي حركة فاعلة .. حيث المغامرة هنا تبدو وخيمة العواقب.. والخطر كبير للنهاية. فجعبة (الرجل) لم يكن بها سوى أربعين رجلا من أهله وخلصائه، وثلاثين بندقية قديمة متواضعة، ومائتي ريال .. أما على الجانب الآخر فهناك قوى الحكم من أمراء نجد، وقوى أخرى داخل الخليج، وفي دول جواره، وصراع مصالح بين العثمانيين، والإنجليز، والأمان، والروس، والطليان. وهكذا لم يكن هناك أي تكافؤ مادي بين كفتي الميزان.. لكن (الرجل) لم يأبه لتلك الحسابات .. فقد كانت لديه حسابات أخرى تدفعه لتحرير الوطن مهما كانت العقبات .. ومهما استلزم الأمر من تضحيات. كثير من المراقبين والمحللين والمفكرين والكتاب، وقفوا طويلا بدهشة بالغة، وأسئلة حيري .. أما انطلاقة (عبد العزيز آل سعود) إلى مهمته التاريخية، لإعادة توحيد البلاد المملكة العربية السعودية) بهذا النفر القليل .. وتلك الاستعدادات الزهيدة التي لا تكفي أما أن تخترق - عقليا . حتى لمجرد مناوشة محدودة .. ناهيك عن استعادة دولة. لقد كانت الحملة في أحسن التقديرات مجرد سرية استطلاع فحسب، أسوار «الرياض»، وتنفذ إلى أحشاء قصر الحكم فيها، وتخلصه من أربابه، وتحرر العاصمة، ثم تنمو بزخم القبائل التي هللت لعودة آل سعود في شخص عبد العزيز، لتكمل المسيرة على نحو ما سجل التاريخ، فهذا هو العجب العجاب .. ومعجزة المعجزات .. يقول جون فانيس في كتابه "أقدم أصدقائي العرب" : "بدأ عبد العزيز مجازفته ومعه أربعون رجلا، و يا لها من مجازفة، و يا لها من مغامرة". بيد أن العالمين بواطن الأمور .. والذين عرفوا الرجل عن كثب، كشفوا كثيرا من الأسرار التي دق فهمها على غيرهم.. فكانوا على يقين من أن الرجل لم يخرج لمجرد دنيا يصيبها، باستعادة ملك آبائه وأجداده. بل كان يشعر أن عليه واجبا (مقدسا) لتخليص الوطن، الذي تردى به الغاصبون، وإنقاذ مواطنيه من العذاب والاضطهاد. ويدل على ذلك ما رواه أحد المقربين، من أنه رأى الملك عبد العزيز في هزيع ما قبل صلاة الفجر، في الحرم المكي، وسمعه يدعو ربه قائلا: "اللهم إن كان في هذا الملك خير لي وللمسلمين فأبقه لي ولأولادي، وإن كان فيه شر لي وللمسلمين فانزعه مني ومن أولادي.." ولقد لعبت طبيعة (عبد العزيز) ونشأته وتربيته، دورا هاما في صناعة رجل فوق العادة.. يغشى الإيمان فكره وعمله ، ولا يعرف الوهن طريقا إلى قلبه الجسور .. وما نقص عزمه لحظة عن المضي إلى أصعب المهام .. فكان الجهاد حرفته وهوايته، وكل بذل في سبيل الهدف النبيل رخيصا عنده. وكأن الله قد هيأه لأمر سبق في علمه - جل وعلا - فأعطاه بسطة في الجسم وقوة في البدن، ووهبه عقلا حاد الذكاء يدرك بواطن الأمور، ويتخذ القرار الحكيم في أصعب المواقف.. وكان يقول في رواية للشيخ يوسف ياسين "إن ربي لم يعطني ما أعطاني عن قوة مني، بل ما أعطاني اياه عن ضعف مني وقوة منه..". وقد ختم القرآن الكريم، وتلقى العلوم الشرعية، على أيدي كبار العلماء آنذاك، وهو أوائل العقد الثاني من عمره، و وترعرع مشبعا بعقيدة الإسلام .علما وعملا، متصلا صلة الواثق بربه. ويقول سمو الأمير عبدالله الفيصل : «لم تكن صلة عبد العزيز بالله صلة مقرونة برغبة وفي خط مواز كان والده يدربه في ذاك السن المبكر على الفروسية، والرماية، والنزال بالسيف، وفنون الحرب والقتال، ورأى الابن أباه وشاركه في جهاده الباسل للذود عن الحمى ثم كانت نشأته مع والده في المهجر والبادية قد دربته على تحمل مكاره العيش، والصبر على الظمأ والجوع والتعب، وافتراش الأرض والتحاف السماء .. يدل على ذلك أنه في إحدى المعارك كان قد أصيب برصاص في بطنه .. وبعد سنوات شق جلد بطنه، ثم أوكل إلى الطبيب إخراج الرصاص وخياطة الجرح بدون تخدير (بنج). ويروى أنه خاض أكثر من مائة معركة، ولما مات وجدوا على جسمه عشرات الندب وآثار الجروح، ومع ذلك كان يقول "لست من المحبين للحرب وشرورها، وليس أحب إلي من السلم، والتفرغ للإصلاح".. وكان الرجل يؤمن إيمانا راسخا بأن السلاح الأقوى في أية مواجهة هو الإيمان بالله فيقول إذا أراد المسلمون والعرب قتال أعدائهم، فإن أعد المسلمون والعرب آلة واحدة من آلات الحرب، أعد أعداؤهم مئات وألوفا، ولكن قوة واحدة إذا أعدها المسلمون والعرب لا يمكن لأعدائهم أن يأتوهم بمثلها، وهي إيمانهم بالله وثقتهم به، إنها القوة التي لا قبل لأحد بها". هذه هي بعض ملامح شخصية الإمام الصالح المصلح الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - الذي خرج في تلك الليلة يحمل قدره وقدر أمته، وهولا يملك إلا ثقته بربه وإيمانه بعدالة قضيته وقضية شعبة، فحرر البلاد، ووحد الأرجاء تحت راية "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، بعد جهاد عنيف مستميت ضد قوى الغصب والشر والفتنة في الداخل، وتغلبه على القوى الخارجية مرة بالحرب، ومرات بالسياسة الحكيمة الفريدة حتى استقرت الأمور تماما، وأصبحت المملكة العربية السعودية واحة الأمن والأمان. وهكذا استطاع عبد العزيز أن ينشئ على أطلال دولة متهالكة مملكة قوية برزت في مجال السياسة الدولية، ولعبت دورا فاعلا فيها. ثم جرى الخير العميم على يديه .. وتفرغ عبد العزيز للشأن الداخلي فوضع دستور البلاد وأنظمتها على مقتضى شرع الله، وأقام العدل ونشر الأمن ورعى مسيرة التنمية ما بقي من حياته، مؤكدا على ضرورة: الأخذ بالعلم والعمل به وكان يقول "علم بلا عمل كشجرة بلا ثمر".. وبذل جهده في تنمية الإنسان وترقية البلاد ما وسعه ذلك في حياته. ثم استلم الراية أبناؤه من بعده فكانوا خير خلف لخير سلف .. صدقوا عهدهم لله .. واتبعوا مسيرة الراحل الرائد. وخلال خمس خطط تنموية خمسية مضت، وخطة سادسة انتصفت، استطاعوا ۔ بفضل الله وعونه - أن يحققوا معجزة هائلة، من خلال نهضة حضارية شاملة دفعت المملكة إلى الصفوف الأولى، وكان على رأس اهتماماتها تنمية الإنسان السعودي، الذي أصبح فاعلا أصيلا في منجزات الوطن، وحارس أمينا عليها. وها هي القافلة تسير بلا توقف من مجد إلى مجد .. الله هاديها .. والشرع حاديها ..والتوفيق حليفها. وفي ذكرى هذا اليوم المبارك .. يقف كل مواطن .. في كل موقع على امتداد المملكة العربية السعودية .. يستعرض ما تنعم به البلاد من أمن وأمان، وسمعة طيبة في الآفاق وما ينعم به من خير ونماء .. فيصلي صلاة شكر الله الواحد الأحد، ويثني بالدعاء للمؤسس العظيم، ولأبنائه البررة بوطنهم وشعبهم .. أن يتغمد الله من قضى منهم بواسع رحمته .. وأن يمد في عمر السائرين على الدرب لخير البلاد والعباد، وأن يجزل لهم جميعا العطاء الأوفى.

  • شارك المقال على :
صحيفة الأنباء الكويتية فى 1998م